عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبداً.
طرطوس تتغير، تتوسع، تتضخم حتى كورنيشها قضم قضمة طويلة من شطّها ومدّ لسانه محاولاً أن يتذوق جزيرة أرواد، أستغرب من نفسي وأنا أتكلم عن التغيير المكاني، نادراً ما سمعتُ عن الذين عناهم الأمر من جيلينا، فقط كبار السن - الذين جلسوا على الطاولات يرمون نردهم لعلّهم يقبضون على حظٍ فاتهم، أو ينفثون دخانهم- من يكترثون لذلك.
تنقسم حياة الإنسان لقسمين، الأول للحفظ، والثاني لتذكر ما حفظه، كأنّه بذلك يريد أن يثبت لنفسه أنّه كان موجوداَ هنا.
أبي الذي تقاعد، كثيراً ما قال لي: الرجل باستقلاله ومن لم يفخر بشبابه لا فخر له. فأردّ: تلك مقولة قديمة لم تعد تنفع في عصرنا، كان الولد فيها يُعطى ماله، ويُزوج عندما يحتلم، أمّا أنا فقد مضى على احتلامي خمس عشرة سنة، لم أجد المال ولا...!؟
خرجتُ من شرودي عندما هبط عليّ داني ومحمود قائلَين: تأخرنا عليك.
- ماذا تشربون؟
- نرجيلة وشاي .
مضتْ سنوات الجامعة سريعاً، أنا درستُ الفلسفة، وداني درس التاريخ، محمود اختصر، أنهى خدمته الإلزامية، وبدأ عمله ببسطة ثياب، والآن لديه كشك لبيعها.
يقترب الجرسون يضع كؤوس الماء الساخن مع ظروف شاي ليبتون بالعلامة الصفراء، ويلحقه معلّم النرجيلة بلباسه العربي، ويجهز "النَفسَين " ثم يناولهما لمحمود وداني بعد أن يوجه المبسم نحو بطنه بحركة تستشعر منها مغزىً جنسياً طالما أنّ الأمر لو وُجِّه للزبون يحمل هذا المعنى!؟
لا شيء يبقى على معناه الحقيقي، فالأنسنة تُغيّر، تُبدّل المعنى الاستعمالي إلى معنى يتجاوزه، وكثيراً ما يفقده دوره السابق من آلة تخفي قرقعة معدة الأمير وإطلاقه لغازاته إلى ما شاء التأويل من دلالات.
يسحب محمود نفساً عميقاً وينفخ في اتجاهي: أعوذ بالله يا رجل ماذا تقول؟
لقد دبّ فيه الإيمان - يسخر داني- تخاف على رزقك !؟ لا تخفْ، فالأرزاق مقسّمة، ولن تذهب!؟ لكنّك ستُسأل عن استخلافك فيها، لذلك عليك بالفاتورة، فأنا وباسم من المساكين، ولنا في مال الأغنياء حقّ.
كنتُ شارداً على ما يبدو، لم أعرف ما الذي جعل داني يتكلم هكذا، لا ريب في أنّها النرجيلة!؟
- الفاتورة سأدفعها، أحتاج لرصيد من الحسنات يوازي سيئات التلصص.
قلتُ: جرسون، اجلبْ "طاولة الزهر"، والآن سأفقعك غلب "مغربية" أخرجه من قفا رأسك.
بينما كان الجرسون يحضر لعبة الطاولة، كانت سماء طاولتنا تعبق بالدخان، كأنّ الرب سيتجلى لنا هنا، وليس على طور سينين، سيناء، أكانت ضرورات التصحيف أم اختلاف الأماكن ووحدة الأسماء!؟
داني هو دانيال، اسم يتجذر في الأسطورة، ومحمود هو أحمد، أحد غصون شجرة الاشتقاق، أمّا اسمي فيبدو غريباً ويدعو للسخرية، اسم فاعل من مصدر الابتسام، ماذا يعني سوى تهكمٍ حزينٍ؟!
يضع الجرسون "طاولة الزهر،" ومازال الصمت يجلس معنا، أفتحها بحركة عصبية، يتناول محمود حجارته البيضاء، أتمُ ترتيب حجارتي السوداء، وأترك أربعة أحجار بيدي على عدد أحرف اسمي، وأرمي نردي، “يك”، يرمي محمود، “بنج”، يبتسم، يرن موبايل داني … (من كتر ما ناديتك وسع المدى)، رفضَ المكالمة، وقال: الذي يخسر، أحلّ محلّه.
دفع محمود الفاتورة وغادرنا، تركْنا داني بحي الحمرات ، وتابعنا سيرنا ليتركني محمود بعدها.
[فصل من رواية “نوكيا” الصادرة عن دار ليليت.]